( 196 ) مدار الأفكار
طير شلوى
يقول الشاعر العربي :
تَبَدَّت عَلى البازي مِن الريشِ لأمَةٌ = فَتحسبهُ مِن حائِـرِ الطَّيـر يَتَّقـي
غَدا أَحمَرَ العَينيـن تَحسـبُ أَنَّـهُ = لَهُ عَينُ غَضبانٍ عَلى الطَّير مُحنَقِ
إن الأمثال وما يشتق منها تفيد التوضيح والتصوير، والظهور والحضور والتأثير, و من حكمة الله و تدبيره
أن ضرب للناس الأمثال من أنفسهم لحاجتهم إليها وليعقل بها المتعظ ويدركها الواعي ، والقرآن الكريم حافل
بذكر الأمثال ومن ذلك قول الحق سبحانه و تعالى: (َ ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
*وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) ( إبراهيم : 26-24 ) , وقال
تعالى : (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ) (العنكبوت: 4) , والمعلم الأول صلى الله عليه
وسلم ، كان يضرب الأمثال كثيراً في أحاديثه وأقواله ، لعلمه ما في الأمثال من قدرة على تقريب المعنى
وبيان المقصود ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب
وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرا القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ،ومثل المنافق الذي
يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها
ريح وطعمها مر ) , وفي استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان يقول الشوكاني : (وفي
ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني) , ويقول ابن سعدي : (فإن في ضرب الأمثال ، تقريباً
للمعاني المعقولة ،من الأمثال المحسوسة ) ، فالأمثال هي نماذج الحكمة لما غاب عن الأسماع والأبصار ،
وفيها تقريب للمعاني والأفكار,وتتميزالأمثال بوجه عام من ناحية البلاغة بعدة ميزات أهمها : (التشبيه،والإيجاز
،والاستعارة والكناية ، والسجع على أنواعه ) , والأمثال حكم وتجارب تعكس بصدق فضائل المجتمع
ونقائصه ، ولا عجب في حال تناقض بعض الأمثال مع بعضها الآخر، لأن الأهواء والنزوات والطباع
تتناقض باختلاف الأوضاع والظروف الاجتماعية والاقتصادية , وقد اشتهرت أمم الشرق منذ القدم بأمثالها
التي لا يزال بعضها متداولاً , ويقول ابن عبد ربه : ( إن الأمثال وشي الكلام وجوهر اللفظ في كل زمان
وعلى كل لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الحكاية لم يسر بشيء سيرها ولا عم عمومها فقيل أسير من
مثل) , والأمثال الشعبية تحمل عادة في طياتها بعض المعاني العميقة ، وبعضها يصف الحدث نفسه الذي
وقعت فيه ، وعادة ما تكون الأمثال الشعبية بيت شعر أو جملة مفيدة مرتبطة ، بحدث ما , ومن أشهر الأمثال
الشعبية المتداولة القول : (فلان طير شلوى) ، وفي منشأ المثل ثمة أكثر من رواية وقصة، فالشائع في كثير
من مصادر الموروث الشعبي كما يقول محمد اليوسفي أن شلوى هذه إمرأة فقيرة كانت تعول ثلاثة أحفاد أيتام
صغار من ابنتها هم ( شويش وهيشان وعدامة) وتسكن معهم في أحد مضارب قبيلة شمر في منتصف القرن
الثالث عشر الهجري تقريبا، وكانت الجدة تطوف في كل ليلة على الحي تطلب الطعام وتتودد للناس بقولها
(ما عندكم عشاء لطويراتي) وتعني الأحفاد الصغار، ولما علم الشيخ عبد الكريم الجربا بحالتهم أمر بإقامة
بيت للجدة وأحفادها وتعهدهم بالرعاية، وكان يوصي خدمه عندما يقيم الولائم بقوله (لا تنسون طيور شلوى) ,
وحدث في وقت بلغ الأحفاد سن الشباب أن حوصرت قبيلة شمر بين كماشتي ثلة من الجيش التركي ترغمهم
على دفع الإتاوات ومضاعفتها وبين أفراد من قبيلة أخرى طامعين في سلبهم، فتداول الجربا الأمر مع رجاله
وأجمعوا على عدم الخضوع وقرروا التصدي للأعداء، وكان الجمع وكبار السن يتساءلون عن الفرسان الذين
سيشعلون شرارة البدء بالهجوم، فامتطى أحد أحفاد المرأة فرسا وهجم باتجاه الجيش التركي لوحدة صائحا
(أنا.. وأنا طير شلوى) ، فتبعه أخواه والقوم وكان لهم النصر, وثمة قصة أخرى تفسر المثل (طير شلوى)
جاءت في كتاب (أوراق جوفية ) لمؤلفه معاشي بن ذوقان العطية،وهي لشاب أسمه محمد كان أبوه مقعدا
طاعنا في السن طلب منه ذات يوم السعي في تزويجه بفتاة صغيرة، فحقق طلبه وزوجه فتاة تسمى ( شلوى)،
وهيأ له الأمر في ليلة دخوله بشلوى إلا أن هذه المعاشرة تسببت بموت المسن, ثم رحلت شلوى إلى أهلها,
وبعد سنوات تجمعت عشائر بدوية على مورد ماء وكلما مر محمد عليهم صادف طفلا مع رجل يقسو عليه
ويضربه دون رحمة، وشعر محمد بعاطفة غريبة تجاه الصغير ورقّّ لحاله، بل بحث عن أهله ليخبرهم, وكم
كانت المفاجأة لما علم أن أم الولد هي شلوى التي أخبرته أنها تزوجت هذا الرجل القاسي بعد موت أبيه
مباشرة مؤكدة أن الابن من صلب أبيه لكن زوجها الحالي يرفض هذه الحقيقة , وتخلص القصة باحتكام محمد
والرجل إلى أحد عوارف البادية والذي حكم بأن الصغير هو أخو محمد, وقد أشار مؤلف الكتاب إلى أن
أشقاء شلوى كانوا ( يعتزون بمقولة أخوان شلوى)،كونها تبدو كما يقول من النساء اللاتي اشتهرن بعمل كبير
مصدر إعجاب واعتزاز لأهلها، ولهذا تسمى العائلة باسمها, وبصرف النظر عن دقة تفاصيل القصتين
وأسماء شخوصهما فهناك خلط في منشأ المثل، والأقرب للصحة والمنطق في معنى المثل (طير شلوى) هو
التفسير الذي يقرن بين منطقة في بلاد فارس تسمى شلوى وصقور تعيش فيها تتميز بالإقدام والقوة عندما
تبطش بفرائسها وقد ذكر معد ومقدم برنامج ديوانية الشعراء حمد العزب عند استضافته عددا من الشيوخ
والرواة والشعراء بطلان نسبة المثل (طير شلوى) إلى قصة الجربا أو غيرها من القصص والتأكيد على أن
شلوى اسم لمنطقة في بلاد فارس اشتهرت بوجود أفضل أنواع الصقور والتي تنسب عادة إلى أماكن نشأتها
ومواكرها الجبلية فيقال ( طير شلوى - طير حوران – طير غيمار – صواريم سنجار) , وفي
تشبيه الممدوح بالصقور دلالة على القوة والإقدام والكبرياء , وتجسيد روح الشجاعة والشموخ والإباء .
يا مسجّل الأمثال ما دمت دارس = اقرأ عن( الأحواز) لا تضيّع الدرس
ترى بكتاب( أرنولد )عن غرب فارس = (شلوى) مقر صقور في ديرة الفرس