عرض مشاركة واحدة
قديم 03-04-2012, 03:08 AM   رقم المشاركة : [2 (permalink)]
سارا
مشرفة منتدى المقالات والنقد
 

الملف الشخصي


 
 بيانات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

سارا غير متواجد حالياً

افتراضي رد: ديمي..حب أول (الجــزء الثانـي)





غدا الاثنين امتحان الدكتور اندرسون لمناهج البحث ، أشعر أني مستعد له جيدا ، فقط احتاج أن أنام

مبكرا ، لاستيقظ نشيطا .. سأصلي وتري أول الليل وأنام .

الاثنين يوم مبارك ، قررت أن أصومه ، فالجو بارد ، وعملا بالسنة ، وتحسبا لمفاجآت لا أعلمها . والصوم كما

قال صلى الله عليه وسلم (وجاء) ، وأنا لا احتاج الوجاء و (الحماية ) ، كما أحتاجها في هذه الأيام ، وفي

امتحان الدكتور اندرسون بالذات .

بقى على الامتحان نصف ساعة ، حينما عزمت على التوجه للجامعة . لم أتوقع أن يكون الثلج بهذه

الكثافة ، لحظة ألقيت نظرة من النافذة ، و الثلج يتساقط ، و ارتأيت أن أصلى الفجر في شقتي . بدأت

أزيح الثلج عن طريق السيارة ، وحينما انتهيت ، و ظننت أن الطريق سالكه ، اكتشفت أن إحدى العجلات

معطوبة . ليس اتساخ الأيدي ، و الملابس ، وبرودة الجو ، هو المزعج فقط ، في مثل هذه المواقف ..

لكن أن يكون بانتظارك ، بعد كل هذا امتحان . ما أن بدلت الإطار المعطوب بآخر صالح ، وحاولت تشغيل

السيارة ، حتى باءت محاولاتي بالفشل ، ثم أكتشف في الأخير ، و يا للسخرية .. أن السيارة فارغة من

الوقود .

وصلت قاعة الامتحان متأخرا عشرين دقيقة ، استقبلني الدكتور أندرسون بابتسامة عريضة ، وهو يشير

لي بأن آخذ مقعدا . اندفعت إلى داخل القاعة ابحث لي عن مكان ، ولم انتبه إلى أحد الطلبة ، الذي قد

مد رجليه أمامه ، فعثرت ووقعت على وجهي وتناثرت أشيائي . حينما استقريت في مكاني أخيرا ، رأيت

الدكتور اندرسون ما زال مبتسما . قلت معتذرا :

ـ هذا اليوم ليس لي يا دكتور اندرسون .

رد مازحا :

ـ لابد أنك كنت تجرف الثلج ، أو أن إطار سيارتك قد تنسم هواؤه …

وهذه هي الأعذار التي يسوقها الطلاب عادة ، حينما يتأخرون .

قلت :

ـ إنك لن تصدقني يا دكتور اندرسون ..

ـ ماذا .. ؟

ـ بالإضافة إلى ما ذكرت ، فقد اكتشفت أن سيارتي قد نفد وقودها ..

أطلق ضحكة مدوية ، وقال :

ـ لن يغلبك أحد يا مصعب .. ويأتي بمثل ما جئت به

شرعت بالإجابة على الامتحان ، لكن القلم لا يكتب . يخط حرفا أو اثنين ، ثم يمتنع . عالجته بشتى الطرق

دون فائدة . استنتجت أني حينما تعثرت برجلي الطالب ، و وقعت ، والقلم في يدي ، ضربت ريشته الأرض

فانثلمت .

لاحظ الدكتور اندرسون حيرتي فجاء مستفهما . فأخبرته بمشكلة القلم ، وسألته أن يعيرني قلمه ، فذكر

لي أنه اعارة لطالب آخر .. نسي قلمه .

قلت للدكتور اندرسون :

ـ ألم أقل لك أن هذا اليوم ليس لي ..

ابتسم ، وقال :

ـ لا عليك سنحل المشكلة ..

سأل الطلاب إن كان هناك أحد معه قلم آخر ، يمكن أن يعيره لشخص ، يبدو أنه نثر الملح من فوق طاولة

الطعام . وهو اعتقاد شعبي بين الأمريكيين ، تقوم فكرته على أن من يكب الملح ، يلازمه النحس طيلة

يومه .

لم يرد أحد من الطلبة ، رغم تكرار السؤال ، إذ قليل من الطلاب من يحمل معه أكثر من قلم . كان الدكتور

اندرسون على وشك أن يطلب مني أن أغادر القاعة ، لأبحث لي عن قلم ، حين ارتفعت يد أحد الطلاب

في أول القاعة . قالت الطالبة :

ـ عندي حل بدائي ، لكنه ينفع في مثل الظروف ..

ثم قامت بكسر قلمها المرسم إلى نصفين ، وبرت أحدهما ، و أعطته للدكتور اندرسون ، الذي أعطاني

إياه بدوره ، وقال مازحا :

ـ لا أعتقد أن أحدا تشاركه الآنسة ديمي بمرسمها ، يمكن أن يقول هذا اليوم ليس لي ..! إنها ديمي إذن ،

يدفعها القدر من جديد في طريقي ، ماذا يخبئ لي هذا اليوم من مفاجآت ..؟ تطاولت ، وبهزة من رأسي ،

وابتسامة خفيفة ، شكرت ديمي .

كان متوقعا أن ينتهي الوقت ، قبل أن انتهى من الإجابة على جميع الأسئلة . لم يبق إلا أنا والدكتور

اندرسون ، الذي قال :

ـ أنا مضطر أن أغادر ، عندما تنتهي أعط ورقة الإجابة لسكرتيره القسم ..

لاحظ أني محرج ، فقال :

ـ لا داعي للحرج .. فأنا أثق بك .

هذا التعامل ينعدم في بلادنا مع الأسف ، حيث الأمانة صارت نادرة ، وقيم الثقة ، أحيانا غير موجودة .

دائما أسال نفسي ما الذي يبقى هذا الوحش الأمريكي الجبار ، رغم مظاهر الظلم والفساد الكثيرة

المنتشرة فيه …؟ إنه قطعا ، ليس القوة المادية المجردة وحدها . فالله سبحانه قد قص علينا أحوال أقوام

اشد قوة ، أهلكهم ، (فهل ترى لهم من باقية) ..؟ . إن مثل هذه القيم ، وأخرى يطول الحديث عنها ، هي

التي مازالت تحافظ على الإمبراطورية الأمريكية من الانهيار .. حتى يأتي أمر الله .

لماذا عدمت مثل هذه السلوكيات الجميلة في مجتمعات المسلمين ..؟ ألا يكفيها التخلف المادي الذي

يطبق عليها ..؟ لماذا لم يبق مسموعا سوى صوت النفاق .. وصار الإسلام ، الذي هو مصدر هذه الفضائل

جميعها ، مطية يركبها كل أفاك ، ليحقق من خلالها أهدافه ..؟ كل همه أن يملأ جيبه ، ويشبع بطنه و .. و

أشياء أخرى . صار الإسلام .. شعارا فقط . يردده السياسي ، ويلوكه شيوخ السوء ، وتشدو به جوقة

النفاق .

ماجت هذه الخواطر في بالي للحظة ، وأنا أرقب الدكتور أندرسون يغادر القاعة ويتركني لوحدي .

أكملت الإجابة على الامتحان ، ولملمت أوراقي ، وتوجهت خارجا ، لأجدها قبالتي ، عند الباب :

ـ ديمي .. ماذا تفعلين هنا ..؟

ـ كنت انتظرك لقد ..

قاطعتها :

ـ تريدين القلم ..؟

ـ هل أنت جاد … لا تكن سخيفا لقد قلقت عليك ، ماذا صنعت في الامتحان ..؟

ـ أظن الأمور على ما يرام ،

ـ ماذا ستفعل الآن ..؟

ـ سأعطى أوراق الامتحان للسكرتيرة ..

ـ و بعد ذلك ..؟

ـ سأذهب إلى البيت لاستريح ، ثم أذاكر لامتحان أخر لدى بعد غد ..

ـ هل لديك بعض الدقائق لنتحدث عن أشياء سبق وسألتك عنها ..؟

ـ لا .. لا أظن أني أستطيع ألان ..

تبادلنا النظرات ، ورأيت في عينيها رجاء ..

ـ آمل أن تتفهمي وضعي ..؟

لم ترد علي .. واستمرت تنظر إلى ، وفي يدها إصبع شوكولاته ، فمدته لي ، فقلت :

ـ شكرا لا أستطيع أن أكله ..

ـ لانه مني ..؟

ـ لا .. ولكنني صائم اليوم … عفوا لابد أن أذهب الآن ..


وانصرفت .. و حينما سرت بضع خطوات نادتني قائلة :

ـ مصعب .. هل أستطيع أن أسألك سؤالا ..؟

التفت ، وكانت واقفة في مكانها .. تقلب إصبع الشوكولاته في يدها ، بشيء من القلق ..



قلت :

ـ ماذا ..؟

ـ هل حقا يهمك أمري .. أقصد هل يهمك أن أعرف الحقيقة عن الإسلام .. أو جزء من الحقيقة ..؟


فاجأني السؤال ، وشعرت بقلبي ينقبض من الألم . هل أنا أسأت التقدير في تعاملي معها ، وتوهمت

أشياء لم تكن موجودة إلا في خيالي ..؟


لم يكن لدي وقت لأناقشها ، تقدمت نحوها ، وقلت :

ـ اليوم الاثنين ، وبعد غد الأربعاء لدي امتحان في المساء .. يوم الخميس سأكون حرا من أي ارتباط .

-حسنا .. نلتقي الخميس ، في نفس الوقت ، ونفس المكان …

أي مكان ، وأي وقت تقصدين ..؟

ـ الساعة السابعة مساء .. في (الكيف دوماسيه) ..

ـ لا بأس ..

ثم سحبت إصبع الشوكولاته من يدها ، وأضفت :

ـ سآخذ هذا وآكله .. حينما أفطر بعد مغيب الشمس ..

ما كدت أنهي كلامي ، حتى اكتسحت وجهها موجه من السعادة ، وانشق ثغرها عن ابتسامة رضا ،

تدفقت من بين ثناياها ، مثل جدول ماء صغير ينساب من بين حصيات مرمر…

و لم تعلق بشيء ..

ـ مع السلامة ..

قلت لها .. ثم استدرت منصرفا ..

بعد أن صليت فجر يوم الخميس ، نمت إلى حدود الساعة العاشرة . منذ اشهر لم أنم إلى هذا الوقت ،

بسبب ضغط الدراسة . قررت ايضا أن اطبخ لي فطورا ، وهو ما لم افعله طول الفترة الماضية ، إذ اكتفى

بالمربيات ، و الأجبان ، والبيض المسلوق .

سأصنع فطورا له مذاق خاص ، (بيض شكشوكة) . هذا أول شيء تعلمته شقيقتي حصة ، وعلمتني إياه

، حينما عزمت على السفر للدراسة .

حصة تصغرني بعامين ، وقبل سنتين وبينما كنت في زيارة الأهل ، أشفقت على والدتي ، لما علمت أن

كل أكلي تقريبا من المطاعم ، لأني لا أجد الوقت الكافي للطبخ . حصة اقترحت حلا للمشكلة ، أن

أتزوج . ومضت خطوة إلى الأمام في هذا المشروع ، حينما تكفلت باختيار الفتاة المناسبة .

انشغلت بترتيب بيتي عامة النهار . لقد انقلب البيت رأسا على عقب ، بسبب حالة الطوارئ التي فرضتها

الامتحانات . لقد بدأ الموعد مع ديمي يقترب ، و صرت أشعر بالتوتر . انطلقت بسيارتي ، و وصلت إلى

مركز ((رينبو كلر مول)) ، قبل السابعة بقليل ، لأقابل ديمي صدفة عند مدخله 0 ركبنا المصعد إلى الدور

الاول ، وحينما دخلنا (الكيف دو ماسيه) ، خيل إلى أني أدخله لأول مرة . في المرة الماضية لم ألاحظ

فخامة الأثاث ، وتناسق الألوان . هناك أيضا موسيقى .. تدندن بصوت خافت . شعرت بانقباض ، المكان

حالم جدا ، وهو أليق بتناجي العشاق ، منه بالدعوة إلى الله ، قلت بتوتر :

ـ المكان غير مناسب ..

ـ لماذا .. ؟

ـ موسيقى وأضواء خافته ، نحن لم نأت لنتحدث عن (روميو وجوليت) ..

شعرت بالحرج وقالت :

ـ ماذا تقترح ..؟

ـ نغير المكان ..

ـ هل كنت ترى أن نذهب إلى مكدونالدز ، وغيره من الأماكن المشابهة ، حيث يتجمع ذلك النوع من

الشباب والبنات الذي تعرفه ..؟

لم أرد .. فأضافت :

ـ ما رأيك أن نذهب إلى منزلي ..؟

فقلت بسرعة :

ـ لا .. لا ..


قالت :

ـ منزلك ..

ـ غير مناسب ..

لقد أحرجتني جدا ولم تترك لي الخيار ، وبقيت لحظات مترددا ، ثم قلت :

ـ لا أريد الموسيقى ..

توجهت إلى مدير المحل ، وتحدثت معه قليلا ، ثم عادت وعلى وجهها ابتسامة ، وقالت :

ـ لن يكون هناك موسيقى ..

قادنا أحد العاملين في المقهى إلى ركن هادي ، وبدون موسيقى ..

ـ كيف .. ؟

.. سألتها ..

ـ انهم يتحكمون بالتوزيع الصوتي .

أخذنا أماكننا ، وتبادلنا الحديث بسرعة عن الامتحان ، حتى جاءت القهوة ، رشفت شيئا من قهوتي ،

وسألتها :

ـ هل هناك شئ محدد تودين السؤال عنه ..؟

أصلحت من جلستها وقالت :

ـ لعلك تذكر أني سألتك من قبل عن شيئين ، أحدهما كان التسامح ، والآخر الحب .. وهو الذي لم تتح لنا

الفرصة لنتحدث عنه .. أنا أعني كيف ينظر الإسلام إلى الحب ..؟

لم أدر بما أجيبها .. لكني أذكر أني بدأت هكذا :

ـ لم يعل الإسلام شيئا مثلما أعلى من شأن الحب ، حتى أنه ربطه بالرب سبحانه وتعالى وجعل الله عز

وجل ، هو الغاية التي ينتهي إليها الحب ، أيا كان نوعه . الإسلام حينما فعل ذلك ، أراد أن يجرد الحب من

كل رباط محسوس ، ومن كل رغبة ، أو شهوة بشرية آنية ، تتلاشى لحظة تحققها ، ليجعله متصلا بالله

مباشرة . فالحب فيه سبحانه ، أسمى درجات الحب ، ولا يتحقق إيمان بشر ، إذا لم يحب الله والرسول

صلى الله وعليه وسلم ، ولا يتحقق إيمانه .ز كاملا ، إذا لم يحب لأخيه المسلم ، ما يحب لنفسه .

لقد صار كل حب في الإسلام ، غايته الحب في الله . وحينما يؤكد الإسلام على هذا الجانب ، فإنه يهدف

إلى تجاوز المادي إلى الروحاني .. و الأرضي إلى العلوي السماوي .

كيف … قد تسألينني ..؟

إن المادي والأرضي ينتهيان إلى الفناء ، أما الروحاني والعلوي فمصيرهما الخلود . أليس الزواج بين

رجل و امرأة هو نتيجة حب ، بشكل من الأشكال . تأملي كيف ينظر الإسلام لأنواع الحب التي تؤدي إلى

نشوء علاقة بين رجل و امرأة ، تقود إلى الزواج . المال أولا ، ثم الجمال ، (أي ميزات الجسد ) ، ثم

المكانة الاجتماعية . وأخيرا الدين .. بما يعني من تمثل لكافة القيم العليا ، التي جاء بها الإسلام ، وفي

مقدمها ، حب الله سبحانه ، من خلال تنزيهه بالتوحيد ، وأن لا يشرك معه أحدا . الإسلام يثمن عاليا الحب

الأخير ، لأن غايته الله سبحانه ،و ينعي على الفرد تطلعه للأنواع الأخرى . الأنواع الأخرى .. مادية ..

زائلة .. مصيرها إلى الفناء : المال يفنى ، والجسد يبلى ، والمكانة الاجتماعية تزول .

لأن الحب طبيعته هكذا ، فإنه يقاوم عوامل الفناء ، بل هو يتجدد باستمرار .. إنه يستمد حياته من الذات

العليا ، التي هي مصدر الخلود . إن من طبيعة المادي أنك حينما تمتلكه تزهد فيه ، لأنه يفتقد لخاصية

التجدد والتسامي ، التي يملكها الروحاني . أضرب لك مثالا : ألسنا نشتهي الطعام اللذيذ ، وحينما

نملكه .. نمله ونزهد فيه . السنا نعشق الجمال ، فإذا ما أدركناه تطلعنا لآخر غيره .


انظري .. حسن التعامل ، الأدب ، الأخلاق ، الرحمة ، التعاون . ألسنا إذا ما وجدناها في إنسان تعلقنا به

، و كلما أزداد تمثلا لهذه الخصال ، زاد تمسكنا به . الإسلام تعامل مع هذين النوعين .. المادي و الروحاني

، على أساس من قدرة كل نوع على منح السعادة ، لأكبر عدد ممكن من الناس ولأطول مدة ممكنة .


الجمال مثلا ، يمكن أن يمنح السعادة والمتعة لشخص واحد فقط ، هو ذلك الذي يباشر الجمال .. بطبيعته

المحسوسة ، بشكل أولى ، ولمدة محدودة ، هي الفترة الزمنية التي يكون فيها محتويا على عنصر

الحياة والحيوية ، قبل أن تأتي على نضارته عوامل الزمن . بل إن الطبيعة المادية المحسوسة له ، تجعل

الاستمتاع به ، مرهون بلحظة المباشرة ، أو اللذة الآنية .


على الجانب الأخر ، خذي الأخلاق كمعادل لجمال الروح ، بما تحويه من رحمة ، وعطف ، وتعاون ، وأدب ،

وغيرها من الخصال الحميدة . كم من الناس تمنحهم السعادة ، دون أن يكون لعامل الزمن أثر على

امتدادها في عمق الزمان ، أو يمنع من شمولها و تمددها عائق المكان . الحب من هذا النوع يتجاوز

الجسد .. ليعانق الروح في افقها السرمدي .

جمال الروح يمكن أن يوجد في الرجل ، وفي المرأة ، وفي الأبيض و الأسود ، والشيخ والطفل . أما

الجمال المادي .. في الجسد ، المحسوس .. فلا . إنه امتياز خاص ، لفئة محدودة من الناس اختارها الله ،

لحكمة يعلمها هو سبحانه . الحب على أساس من الروح يا ديمي ، يفتح المجال واسعا للترقي في

مدارج الكمال ، فارتباط الروح بالذات العليا ، يمنحها القدرة على الإبداع والتسامي .. والزيادة . فنحن

نستطيع أن نكون اكثر رحمة ، وأكثر عطفا ، وأكثر تسامحا ، مرة بعد مرة ، مدفوعين بالحب الأسمى .. حبه

سبحانه وتعالى . لكننا لا نستطيع أن نكون أجمل ، و أجسامنا لن تكون اكثر نضارة ، و أنفاسنا لن تكون

أطيب رائحة .. في كل مرة ، لأن الجسد مرتبط بالأرضي ، الفاني .

جدير بحب كهذا يا ديمي … أن يؤول للزوال .


أظن أني قلت هذا الكلام ، وأشياء أخرى . المؤكد أن الذي كان يتكلم ليس لساني فقط ، بل جوارحي

كلها لا أدرى كم كوبا من القهوة شربت وأنا أتكلم . كنت أنظر في وجه ديمي ، بين وقت وآخر ، فأحس


إنها معي بكل جوارحها . بل كانت نظراتها .. يخيل إلي ، أنها تحاول أن تنفذ إلى أعماقي . كنت شابكا

كفي لبعضهما ، ويداي ممددتان على الطاولة أمامي حانيا رأسي ، حينما سمعتها ، تقول بصوت واهي

النبرات :


ـ هذا أجمل شئ سمعته في حياتي ..


استغرقتني لحظات تفكير ، لم انتبه خلالها إلا وكفاها تطبقان بهدوء على كفي .. شعرت بخدر يسري في

أوصالي ، ودفء يجتاحني ، حتى أحسست ذلك في حرارة أنفاسي . لوهلة استسلمت دون مقاومة لهذا

الوضع . في قرارة نفسي ، كنت أشعر بعطش شديد .. لشيء لا أدري ما هو . ربما السكينة والهدوء ..

والكف الذي استريح عليه .


هل المرأة تملك كل هذه القدرة على التوغل في الأعماق . أم هذا شئ خاص بها وحدها ..؟ كنت في

حالة استكانة تامة حين سمعتها تناديني :

ـ مصعب هل أنت بخير ..؟

رفعت رأسي ، وتأملت وجهها الذي يضج أنوثة وفتنة ، وأبصرت يدي بين يديها . يا إلهي


ماذا صنعت .. ؟ وتذكرت خالد وبكاؤه .. ودوت كلماته بعنف في :

من استشعر الموقف هان في عينيه كل شئ ” .


أحسست كأنما تيارا كهربائيا يسرى في جسدي ، ويهزني بعنف ، فسحبت يدي بسرعة فضربت كوب

القهوة ، فاندلقت القهوة الحارة علي ، وصرخت من شدة الألم ، فانفعلت هي وصرخت كذلك ، وهي

تصيح :

ـ أنا آسفة .. أنا آسفة ..

أسرع عامل المقهى باتجاهنا ، إثر سماع الأصوات ، وقام بمساعدتي في تنظيف ملابسي ، واحضر لي

مرهما لعمل إسعافات أولية . كان واضحا أني احتاج إلى علاج عاجل ، لذلك نصحنا بالذهاب إلى

المستشفى بسرعة . أصرت أن تأخذني بسيارتها إلى المستشفى . في الطريق .. ظلت تبكي ، وتعتذر

أنها لم تقصد .

أجريت الإسعافات اللازمة ، وعدنا إلى سيارتي ، بناء على طلبي ، رغم أنها كانت لا ترى أن أقود السيارة

بنفسي . تأكدت الآن أني مصاب منها ، ليس في يدي ، ولكن في قلبي . لم أتحرك حينما انحنت لترخى

رباط يدي ، فلامس شعرها وجهي . لقد فعلت تلك اللمسة فعل السم في جسدي ، أنا الآن ضعيف

المقاومة .. أنا الآن في خطر .

افترقنا بعد أن وعدتها أن أتصل بها ، لأطمئنها على حالتي الصحية . قالت ، وهي تمسك بيدي ،

لتساعدني على ركوب السيارة :


ـ ساكون قلقة إن لم تفعل .. لابد أن تتصل بي ..


لم أبد مقاومة تذكر .. بل لم أبد أية مقاومة ، وهي تضع يدها على جبيني ، و تؤكد علي ، بنظرات ملؤها

الرجاء ، أن لا أنسى الاتصال بها …

توجهت إلى بيتي ، وصرت أتأمل النهاية التي انتهت إليها علاقتي مع هذه الفتاة . تذكرتها وهي تبكي ،

ونحن في طريقنا إلى المستشفى . كانت تقول : ” لن أسامح نفسي إن أصابك أذى” .. و كررت أكثر من

مرة عبارة : ” أنا أحبك ، ولم اقصد أن أؤذيك” .. كانت هذه الكلمات تنغرس في وجداني عميقا .

بدأت الأفكار السيئة تراودني ، أثار لمسة كفيها ما زال يسرى نبضها في سائر جسدي


. نعومة راحتيها ، ودفئهما .. لم تفارقا خيالي إلى الآن ..شعرها يتراءى لي كسبائك من ذهب . حينما

وصلت إلى باب شقتي كرهت الدخول ، ولمت نفسي أن رفضت عرضها ، بأن تأتي معي لتطمئن علي .

دخلت المنزل وإذا بالهاتف يرن ، لا أتوقع أحدا معينا ، رفعت السماعة ، جاءني صوته من الطرف الثاني

هادئا ، رخيما ، حزينا :

ـ السلام عليكم .. كيف حالك ..؟

ـ من .. خالد ، أهلا بهذا الصوت ..

ـ رأيت فيك رؤيا البارحة .. فقلقت عليك ..

شعرت بانقباض وقلت :

ـ خيرا إن شاء الله ..؟

ـ خير ..

قص علي الرؤيا .. ثم سألته :

ـ وماذا عبرتها ..؟

ـ تنجو من فتنة ..

و أضاف :

ـ هل تتعرض لمشكلة في الوقت الراهن ..؟

أحسست بالخوف وقلت بسرعة :

ـ من أي نوع .. ؟ لا .. لا .. أبدا والحمد لله ..

ودعني و دعا لي . إنه رجل ملهم .. ينظر بنور الله . ظلت عبارته : تنجو من فتنة .. تتردد في ذهني مرة بعد

أخرى . هذه بشارة .. قلت في نفسي : اللهم نجني .

مر علي يومان لم أغادر فيها البيت ، خشية أن يسألني الاخوة عن سبب الإصابة في يدي . تخلفت عن

صلاة الجماعة .. واشعر بالذنب لذلك . لم أتصل بديمي كما وعدتها ، رغم أني أفكر بها معظم الوقت …

تناقض لم استطع أن أحله .

كيف انعتق من هذه الدوامة ..؟ سألت نفسي . بدأت أفكر بالاتصال بها ، حتى لا أعطي صورة سيئة عن

الإسلام .. هكذا زعمت لنفسي . ماذا لو قالت سآتيك ..؟ بدأت تلح علي الفكرة .. أن أكلمها .. وكدت

استسلم لها ، ثم وجدت أنى إن بقيت في شقتي فإني حتما سأتصل بها ، ولن أمانع أن تأتي عندي .

ثم ..؟ آه .. هذا هو السؤال ..

وصل الصراع في نفسي إلى أقصاه ، فقررت أن أخرج . قلت ، أذهب إلى المركز الإسلامي ، فقطعا

سأجد بعض الاخوة ، وهناك ، سأتسلى بهم ، وأظل بعيدا ، حتى لا أقع ضحية لتداعيات النفس الآثمة ..

الأمارة بالسوء ..

خرجت ، وحينما كنت أهم بركوب سيارتي ، سمعت صوتا يناديني ، فالتفت إلى مصدر الصوت كالملدوغ …

ـ يا الهي إنها هي .. كيف عرفت مكاني ..؟

شعرت بقلبي يهبط إلى قاع أحشائي ، وهي تنزل من سيارتها متجهة نحوي ، تتلفع بجاكيت خفيف تتقي

به برد ديسمبر القارس .. قالت :

ـ انت تسكن هنا ..؟

تلعثمت ولم أشأ أن أكذب ، وقلت :

ـ نعم .. كيف وصلت إلى هنا ..؟

ـ جئت لزيارة صديقة لي تقيم في نفس البناية .. ويبدو أن أمرا طارئا حدث ، فاضطرها للخروج ، فتركت

لي ملاحظة على باب منزلها تخبرني فيها إنها ستعود بعد ثلاثين دقيقة .. وأنا كما ترى ، انتظر عودتها في

هذا البرد القارس .

قالت عبارتها الأخيرة ، وهي ترمقني باستعطاف ، فأدركت انها تريد ملجأ من البرد ، ريثما تعود صاحبتها .

ران بيتنا صمت ، لم أدر كيف اقطعه ، وكنت خلالها أقلب أفكارا كثيرة ، معظمها سيء . و رغم أني ملتحف

بمعطف ثقيل ، فقد شعرت ببرودة تدب في جسمي ، ولم يحل الطقس البارد جدا ، دون تقافز حبات من

العرق على جبيني . كنت انظر إليها تتأملني أتصبب عرقا في هذا البرد ، وهي تنكمش من شدته ..


فبادرتني قائلة :


ـ أنا آسفة .. أنت خارج ، وأنا قد أخرتك .. معذرة على هذه البلادة ..


كان وجهها أصفر شاحبا من شدة البرد .. قلت لها :


ـ لا .. أبدا ، ليس هناك شئ مهم ..! لم لا تنتظرين عندي في شقتي ، إلى حين عودة صاحبتك ، ونتناول

خلال ذلك قهوة تشيع الدفء في أطرافنا التي تكاد تنكسر من هذا الزمهرير ..؟


لم أكد أقول ذلك حتى تدفق الدم في وجهها الشاحب ، فاستعاد نضارته ، وقالت :


ـ أنا أشعر بامتنان عظيم للطفك الكبير .. كما أنني متلهفة لاستكمال نقاشنا السابق .. ثم أضافت ..

وأستطيع أن ألغي موعدي مع صديقتي .. إذا تطلب الأمر ذلك .


إنها دعوة مفتوحة بلا جدال .. حدثت نفسي ، وأنا انصرف وإياها راجعين باتجاه شقتي ، التي لم تكن تبعد

سوى خمسين خطوة عن موقف السيارات . داخلني هم كبير ، وزاد خفقان قلبي ، وكنت خلال ذلك في

صراع نفسي عظيم ، جعلني في شغل عن حديثها الذي لا أدري ما كنهه .


تقول لي نفسي : أليس هذا ما تريد .. أليس هذا ما كان حديث نفسك ، خلال اليومين الماضين ..؟ هاهي

قد جاءتك تسعى على قدميها .. أنت لم تذهب إليها ، بل أنت لم تدعها .. إنها فرصة ، والله غفور رحيم .

اجلس معها ، وإن جاء العرض منها فليس ذنبك ، أنت قد قاومت و ابن آدم ضعيف ، والله سيعذرك …!


ويجيء صوت الضمير الحي : حذار فهذا هو البلاء العظيم .. أين الخوف من الله .. أين الدعوة إلى الله ..؟

كيف إذا جيء بك يوم القيامة ، ورفعت على رؤوس الأشهاد ، وقيل من هذا .. فتطاولت أعناق من قد يكون

عرفك في هذه الدنيا فيقولون : هذا نعرفه .. هذا الداعية إلى الله مصعب . فيقال : لا .. هذا الزاني

مصعب . يا إلهي أنت أرحم بي أن أصير إلى هذا المصير .


كنا في منتصف الدرج على بعد خطوات من باب شقتي ، حين تعثرت وسقطت ، لشدة الاضطراب الذي

انتابني ، بسبب الصراع الداخلي العنيف . ساعدتني على النهوض .. كنت شاحبا ، غاض الدم في وجهي

، أتصبب عرقا ، وأطرافي ترتجف ، قالت لي :


ـ أنت متعب بجد ..؟


ـ نوعا ما .. ديمي أنا لا أستطيع أن أبقى معك .. أنا مرتبط ، ولا بد أن أذهب ..

شعرت بالخجل ، وقالت :

ـ لقد احسست بأني أحرجتك .. كم أنا غبية ، أنا اسفة جدا ، سأذهب 0

ـ لا .. لن تذهبي ، بل ابق وانتظري صديقتك في منزلي ، واعتبري نفسك في بيتك .. اصنعي لنفسك

قهوة .. وإن كنت جائعة ، ورغبت في الأكل ، فلا تترددي .. فالثلاجة ، والمطبخ تحت تصرفك .. وإذا خرجت

تأكدي من أن الباب مغلق ، وضعي المفتاح في صندوق البريد رقم 7 في المدخل الرئيسي للبناية ..

قالت وفي عينيها علامات استفهام كثيرة :

ـ هل أنت متأكد ..؟

هززت رأسي موافقا ..

عادت لتسألني :

ـ هل تحتاج إلى مساعدة .. هل تستطيع أن تقود السيارة بنفسك .. ؟
ـنعم ..

هل أنت متأكد بأنك ستكون بخير .. ؟

ـ نعم .. ثم أضفت في سري .. ” إذا كنت بعيدا عنك ” 0

أمسكت يدي بيديها ، و دمعتان حائرتان في عينيها ، و قالت :

ـ مصعب أنا أحبك ..

تسمرت عيناي في وجهها الطفولي ، و الألم يفتك بقلبي .. و قلت :

ـ و أنا كذلك .. لكني يجب أن أذهب ..

سحبت يدي من يديها ، و انحدرت مع الدرج ،و حينما حانت مني إلتفاتة ، و أنا في آخر الدرج ،كانت ما

زالت هناك … الدمعتان من خلفهما عيناها الزرقاوان ، بدتا كموجتين انكسرتا على شاطئ لازوردي …

و أنا ..

مثل صياد أدركه الغروب ..

على شاطئ موحش ..

شباكه فارغة ..

قلبه فارغ ..

إلا من رحمة الله ..


انتهت ..

  رد مع اقتباس
 

ظ„ظٹظ†ظƒط§طھ - ط¯ط¹ظ… : SEO by vBSEO 3.5.1