الموضوع: نازك الملائكة
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-30-2010, 04:07 PM   رقم المشاركة : [2 (permalink)]
شموخ امراة
مشرفة منتدى الشعر الفصيح
 

الملف الشخصي


 
 بيانات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

شموخ امراة غير متواجد حالياً

افتراضي

شجرة القمر


1

على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ

وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ

وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ

وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ

هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ

إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ

ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ

ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ

وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ

وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ

وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ

ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ

وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ

يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ

ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ

وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ

وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ

على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ

وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا

أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى

2

وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ

خفيفَ الخُطَى, عاريَ القدمين, مَشُوقَ الدماءْ

وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ

وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ

وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ

وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ

وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ

ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ

وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما

على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما

... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ

وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ

وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ, بكأس النعومهْ

بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ

وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ

أذلكَ حُلْمٌ? وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ?

وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ

وكلّلَهُ بالأغاني, بعيْنيهِ, بالزّنْبقِ

3

وفي القريةِ الجبليّةِ, في حَلَقات السّمَرْ

وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: "أين القمر?!"

"وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا?"

"وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا?"

ونادت صبايا الجبالِ جميعًا "نُريدُ القَمَرْ!"

فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: "نُريدُ القَمَرْ"

"مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا"

"وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا"

"مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ"

"وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ"

"يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ"

"ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ"

"ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر?"

"ومَنْ ذا يرقّقُ ألحاننا? مَن يغذّي السّمَرْ?"

ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ

فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ

وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ

ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ

وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ

ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: "نُريدُ القَمَرْ"

وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ

إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ

وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ

وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ

وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ

ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ

وهزَّ السكونَ وصاحَ: "لماذا سَرَقْت القَمَرْ?"

فجُنّ المَسَاءُ ونادى: "وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ?"

4

وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمّ الأسيرَ الضحوكْ

ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: "لن يأخذوك?"

وكان هُتَافُ الرّعاةِ يشُقّ إليهِ السكونْ

فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ

وراح يغنّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ

ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ

ولكنّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ

وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ

ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ

ويهدمُ ما شيّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور

وأين سيهرُبُ? أين يخبّئ هذا الجبينْ?

ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين?

وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ

وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ?

ومرّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ

تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ

وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ

ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ, وأينَ المفرْ?

وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ

بأدمعِه ويصُبّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ

5

وحينَ استطاعَ الرّعاةُ المُلحّون هدْمَ الجدارْ

وتحطيمَ بوّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ

تدفّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ

فماذا رأوا? أيّ يأسٍ عميق وأيّة صَدْمَهْ!

فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ

وأمّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ

جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ

وطيفُ ابتسامٍ تلكّأ يَحلُمُ في شفتيهِ

ووجهٌ كأنَّ أبولونَ شرّبَهُ بالوضاءهْ

وإغفاءةٌ هي سرّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ

وحار الرُّعاةُ أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ?

ألم يُخطِئوا الاتّهام ترى? ثمّ... أينَ القَمَرْ?

وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ

عن القَمَر العبقريّ أتاهَ وراءَ الغمامْ?

أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ

وراحتْ تكسّرُهُ لتغذّي ضياءَ النجومْ?

أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضّةَ الزنبقيّهْ?

وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيّهْ?

أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقّلِ من خُفِّها

سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها

لتَصْنَعَ خُفّينِ من جِلْدِهِ اللّين اللَّبَنيّ

وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي

6

وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريّ البرُودْ

يتوّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ

يجوبُ الفضاءَ وفي كفّه دورقٌ من جَمالْ

يرُشّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ

ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ

ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ

وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ

يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ

وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ

فماذا رأى? يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ!

هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ, حيثُ الصباحْ

تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ

هنالكَ كانت تقومُ وتمتدّ في الجوِّ سِدْرَهْ

جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ

رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ

وأرضَعَها ضوءُه المختفي في الترابِ العَطِرْ

وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ

وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ

وأثمارها? أيّ لونٍ غريبٍ وأيّ ابتكارْ

لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ

وجُنّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ

فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ

فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ? أيّ تُرْبهْ

سقتْها الجمالَ المفضَّضَ? أي ينابيعَ عذْبَهْ?

وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ

جميعًا? فمن كلّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ

7

ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون

حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون

وحتى الجبالُ طوتْ سرّه وتناستْ خطاهُ

وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ

وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ

وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ

يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ

وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ

وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدّر في عمْق كهفِ

يؤكّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ

خمس اغاني للالم


مُهْدي ليالينا الأسَى والحُرَقْ

ساقي مآقينا كؤوسَ الأرَقْ

نحنُ وجدناهُ على دَرْبنا

ذاتَ صباحٍ مَطِيرْ

ونحنُ أعطيناهُ من حُبّنا

رَبْتَةَ إشفاقٍ وركنًا صغيرْ

ينبِضُ في قلبنا

**

فلم يَعُد يتركُنا أو يغيبْ

عن دَرْبنا مَرّهْ

يتبعُنا ملءَ الوجودِ الرحيبْ

يا ليتَنا لم نَسقِهِ قَطْرهْ

ذاكَ الصَّباحَ الكئيبْ

مُهْدي ليالينا الأسَى والحُرَقْ

ساقي مآقينا كؤوس الأرَقْ

2

مِن أينَ يأتينا الأَلمْ?

من أَينَ يأتينا?

آخَى رؤانا من قِدَمْ

ورَعى قوافينا

**

أمسِ اصْطحبناهُ إلى لُجج المياهْ

وهناكَ كسّرناه بدّدْناهُ في موج البُحَيرهْ

لم نُبْقِ منه آهةً لم نُبْقِ عَبْرهْ

ولقد حَسِبْنا أنّنا عُدْنا بمنجًى من أذَاهْ

ما عاد يُلْقي الحُزْنَ في بَسَماتنا

أو يخْبئ الغُصَصَ المريرةَ خلف أغنيَّاتِنا

**

ثم استلمنا وردةً حمراءَ دافئةَ العبيرْ

أحبابُنا بعثوا بها عبْرَ البحارْ

ماذا توقّعناهُ فيها? غبطةٌ ورِضًا قريرْ

لكنّها انتفضَتْ وسالتْ أدمعًا عطْشى حِرَارْ

وسَقَتْ أصابعَنا الحزيناتِ النَّغَمْ

إنّا نحبّك يا ألمْ

**

من أينَ يأتينا الألم?

من أين يأتينا?

آخى رؤانا من قِدَمْ

ورَعَى قوافينا

إنّا له عَطَشٌ وفَمْ

يحيا ويَسْقينا

3

أليسَ في إمكاننا أن نَغْلِبَ الألمْ?

نُرْجِئْهُ إلى صباحٍ قادمٍ? أو أمْسِيهْ

نشغُلُهُ? نُقْنعهُ بلعبةٍ? بأغنيهْ?

بقصّةٍ قديمةٍ منسيّةِ النَّغَمْ?

**

ومَن عَسَاهُ أن يكون ذلك الألمْ?

طفلٌ صغيرٌ ناعمٌ مُستْفهِم العيونْ

تسْكته تهويدةٌ ورَبْتَةٌ حَنونْ

وإن تبسّمنا وغنّينا له يَنَمْ

**

يا أصبعًا أهدى لنا الدموع والنَّدَمْ

مَن غيرهُ أغلقَ في وجه أسانا قلبَهُ

ثم أتانا باكيًا يسألُ أن نُحبّهُ?

ومن سواهُ وزّعَ الجراحَ وابتسَمْ?

**

هذا الصغيرُ... إنّه أبرَأ مَنْ ظَلَمْ

عدوّنا المحبّ أو صديقنا اللدودْ

يا طَعْنةً تريدُ أن نمنحَها خُدودْ

دون اختلاجٍ عاتبٍ ودونما ألمْ

**

يا طفلَنا الصغيرَ سَامحْنا يدًا وفَمْ

تحفِرُ في عُيوننا معابرًا للأدمعِ

وتَسْتَثيرُ جُرْحَنا في موضعٍ وموضعِ

إنّا غَفَرْنا الذنبَ والإيذاء من قِدَمْ

4

كيف ننسىَ الألَمْ

كيف ننساهُ?

من يُضيءُ لنا

ليلَ ذكراهُ?

سوف نشربُهُ سوف نأكلُهُ

وسنقفو شُرودَ خُطَاه

وإذا نِمنا كان هيكلُهُ

هو آخرَ شيءٍ نَرَاهْ

**

وملامحُهُ هي أوّلَ ما

سوف نُبْصرُهُ في الصباحْ

وسنحملُهُ مَعَنا حيثُما

حملتنا المُنى والجراحْ

**

سنُبيحُ له أن يُقيم السُّدودْ

بين أشواقنا والقَمَرْ

بين حُرْقتنا وغديرٍ بَرُودْ

بين أعيننا والنَّظَرْ

**

وسنسمح أن يَنْشُر البَلْوى

والأسَى في مآقينا

وسنُؤْويه في ثِنْيةٍ نَشْوَى

من ضلوع أغانينا

**

وأخيرًا ستجرفُهُ الوديانْ

ويوسّدُهُ الصُّبَّيْر

وسيهبِطُ واديَنَا النسيان

يا أسانا, مساءَ الخَيْرْ!

**

سوف ننسى الألم

سوف ننساهُ

إنّنا بالرضا

قد سقيناهُ

5

نحن توّجناكَ في تهويمةِ الفجْرِ إلهَا

وعلى مذبحكَ الفضيّ مرّغْنَا الجِبَاهَا

يا هَوانا يا ألَمْ

ومن الكَتّانِ والسِّمْسِمِ أحرقنا بخورَا

ثمّ قَدّمْنا القرابينَ ورتّلْنَا سُطورَا

بابليَّاتِ النَّغَمْ

**

نحنُ شَيّدنا لكَ المعبَدَ جُدرانًا شَذيّهْ

ورَششنا أرضَهُ بالزَّيتِ والخمرِ النَّقيَّهْ

والدموع المُحرِقهْ

نحن أشعلنا لكَ النيرانَ من سَعف النخيلِ

وأسانا وَهشيم القمح في ليلٍ طويلِ

بشفاهٍ مُطْبَقَهْ

**

نحنُ رتّلْنَا ونادَيْنا وقدّمْنا النذورْ:

بَلَحٌ من بابلِ السَّكْرَى وخُبْزٌ وخمورْ

وورودٌ فَرِحَهْ

ثمّ صلّينا لعينيك وقرّبنا ضحيّهْ

وجَمَعْنا قطَراتِ الأدمُعِ الحرّى السخيّهْ

وَصنَعْنا مَسْبَحَهْ

**

أنتَ يا مَنْ كفُّهُ أعطتْ لحونًا وأغاني

يا دموعًا تمنحُ الحكمةَ, يا نبْعَ معانِ

يا ثَرَاءً وخُصوبَهْ

يا حنانًا قاسيًا يا نقمةً تقطُرُ رحْمَه

نحنُ خبّأناكَ في أحلامنا في كلّ نغْمهْ

من أغانينا الكئيبهْ

اغنية حب للكلمات

فيمَ نخشَى الكلماتْ

وهي أحيانًا أكُُفٌّ من ورودِ

بارداتِ العِطْرِ مرّتْ عذْبةً فوق خدودِ

وهي أحيانًا كؤوسٌ من رحيقٍ مُنْعِشِ

رشَفَتْها, ذاتَ صيفٍ, شَفةٌ في عَطَشِ?

**

فيم نخشى الكلماتْ?

إنّ منها كلماتٍ هي أجراسٌ خفيّهْ

رَجعُها يُعلِن من أعمارنا المنفعلاتْ

فترةً مسحورةَ الفجرِ سخيّهْ

قَطَرَتْ حسّا وحبًّا وحياةْ

فلماذا نحنُ نخشى الكلماتْ?

**

نحنُ لُذْنا بالسكونِ

وصمتنا, لم نشأ أن تكشف السرَّ الشِّفاهُ

وحَسِبنا أنّ في الألفاظ غولاً لا نراهُ

قابعًا تُخْبئُهُ الأحرُفُ عن سَمْع القرونِ

نحنُ كبّلنا الحروف الظامئهْ

لم نَدَعْها تفرشُ الليلَ لنا

مِسْندًا يقطُرُ موسيقَى وعِطْرًا ومُنَى

وكؤوسًا دافئهْ

**

فيم نخشى الكلماتْ?

إنها بابُ هَوًى خلفيّةٌ ينْفُذُ منها

غَدُنا المُبهَمُ فلنرفعْ ستارَ الصمتِ عنها

إنها نافذةٌ ضوئيّةٌ منها يُطِلّ

ما كتمناهُ وغلّفناهُ في أعماقنا

مِن أمانينا ومن أشواقنا

فمتى يكتشفُ الصمتُ المملُّ

أنّنا عُدْنا نُحبّ الكلماتْ?

**

ولماذا نحن نخشَى الكلماتْ

الصديقاتِ التي تأتي إلينا

من مَدَى أعماقنا دافئةَ الأحرُفِ ثَرّهْ?

إنها تَفجؤنا, في غَفْلةٍ من شفتينا

وتغنّينا فتنثالُ علينا ألفُ فكرهْ

من حياةٍ خِصْبة الآفاقِ نَضْرهْ

رَقَدَتْ فينا ولم تَدْرِ الحياةْ

وغدًا تُلْقي بها بين يدينا

الصديقاتُ الحريصاتُ علينا, الكلماتْ

فلماذا لا نحبّ الكلماتْ?

**

فيمَ نخشى الكلماتْ?

إنّ منها كلماتٍ مُخْمليات العُذوبَهْ

قَبَسَتْ أحرفُها دِفْءَ المُنى من شَفَتين

إنّ منها أُخَرًا جَذْلى طَروبهْ

عَبرَت ورديّةَ الأفراح سَكْرى المُقْلتين

كَلِماتٌ شاعريّاتٌ, طريّهْ

أقبلتْ تلمُسُ خَدّينا, حروفُ

نامَ في أصدائها لونٌ غنيّ وحفيفُ

وحماساتٌ وأشواقٌ خفيّهْ

**

فيمَ نخشى الكلماتْ?

إن تكنْ أشواكها بالأمسِ يومًا جرَحتْنا

فلقد لفّتْ ذراعَيْها على أعناقنا

وأراقتْ عِطْرَها الحُلوَ على أشواقنا

إن تكن أحرفُها قد وَخَزَتْنا

وَلَوَتْ أعناقَها عنّا ولم تَعْطِفْ علينا

فلكم أبقت وعودًا في يَدَينا

وغدًا تغمُرُنا عِطْرًا ووردًا وحياةْ

آهِ فاملأ كأسَتيْنا كلِماتْ

**

في غدٍ نبني لنا عُشّ رؤًى من كلماتْ

سامقًا يعترش اللبلابُ في أحرُفِهِ

سنُذيبُ الشِّعْرَ في زُخْرُفِهِ

وسنَرْوي زهرَهُ بالكلماتْ

وسنَبْني شُرْفةً للعطْرِ والوردِ الخجولِ

ولها أعمدةٌ من كلماتْ

وممرًّا باردًا يسْبَحُ في ظلٍّ ظليلِ

حَرَسَتْهُ الكلماتْ

**

عُمْرُنا نحنُ نذرناهُ صلاةْ

فلمن سوف نصلّيها... لغير الكلماتْ?

النهر العاشق

أين نمضي? إنه يعدو إلينا

راكضًا عبْرَ حقول القمْح لا يَلْوي خطاهُ

باسطًا, في لمعة الفجر, ذراعَيْهِ إلينا

طافرًا, كالريحِ, نشوانَ يداهُ

سوف تلقانا وتَطْوي رُعْبَنا أنَّى مَشَيْنا

**

إنه يعدو ويعدو

وهو يجتازُ بلا صوتٍ قُرَانا

ماؤه البنيّ يجتاحُ ولا يَلْويه سَدّ

إنه يتبعُنا لهفانَ أن يَطْوي صبانا

في ذراعَيْهِ ويَسْقينا الحنانا

**

لم يَزَلْ يتبعُنا مُبْتسمًا بسمةَ حبِّ

قدماهُ الرّطبتانِ

تركتْ آثارَها الحمراءَ في كلّ مكانِ

إنه قد عاث في شرقٍ وغربِ

في حنانِ

**

أين نعدو وهو قد لفّ يدَيهِ

حولَ أكتافِ المدينهْ?

إنه يعمَلُ في بطءٍ وحَزْمٍ وسكينهْ

ساكبًا من شفَتَيْهِ

قُبَلاً طينيّةً غطّتْ مراعيْنا الحزينهْ

**

ذلكَ العاشقُ, إنَّا قد عرفناهُ قديما

إنه لا ينتهي من زحفِهِ نحو رُبانا

وله نحنُ بنَيْنا, وله شِدْنا قُرَانا

إنه زائرُنا المألوفُ ما زالَ كريما

كلَّ عامٍ ينزلُ الوادي ويأتي للِقانا

**

نحن أفرغنا له أكواخنا في جُنْح ليلِ

وسنؤويهِ ونمضي

إنه يتبعُنا في كل أرضِ

وله نحنُ نصلّي

وله نُفْرِغُ شكوانا من العيشِ المملِّ

**

إنه الآن إلهُ

أو لم تَغْسِل مبانينا عليه قَدَمَيْها?

إنه يعلو ويُلْقي كنزَهُ بين يَدَيها

إنه يمنحُنا الطينَ وموتًا لا نراهُ

من لنا الآنَ سواهُ?

الــــــــــــــــــــــــــــــى الشعر

من بَخور المعابدِ في بابل الغابرهْ

من ضجيج النواعيرِ في فَلَواتِ الجَنوبْ

من هتافاتِ قُمْريّةٍ ساهرهْ

وصدى الحاصدات يغنّين لحنَ الغروبْ

ذلكَ الصوتُ, صوتُكَ سوف يؤوبْ

لحياتي, لسمع السنينْ

مُثخَنًا بعبيرِ مساءٍ حزينْ

أثقلتهُ السنابِلُ بالأرَجِ النَّشْوانْ,

بصدًى شاعريّ غريبْ

من هُتافاتِ ضفدعةٍ في الدجى النعسان

يملأُ الليلَ والغدْرانْ

صوتُها المتراخي الرتيبْ

**

ذلك الصوتُ, صوتُكَ سوف يؤوب

لحياتي, لسَمْع المساءْ

سيؤوبُ وأسمعُ فيه غناءْ

قمريَّ العُذوبةِ فيه صَدًى من ليالي المطر

من هدوءِ غُصونِ الشجر

وهي تمتصّ سَكْرى, رحيق السَّماءْ

الرحيقَ الذي عطّرتْهُ الغيومْ

بالرؤى, بتحايا النجومْ

**

سأجوبُ الوجودْ

وسأجمَعُ ذرّاتِ صوتِكَ من كل نَبْعٍ بَرودْ

من جبال الشِّمالْ

حيث تهمسُ حتى الزنابقُ بالأُغنياتْ

حيثُ يحكي الصنوبرُ للزَّمَنِ الجوّالْ

قصصًا نابضاتْ

بالشَّذى, قصصًا عن غرامِ الظِّلالْ

بالسواقي, وعن أغنياتِ الذئابْ

لمياهِ الينابيعِ في ظُلَلِ الغاباتْ

عن وقَارِ المراعي وفلسفة الجَدْولِ المُنْسابْ

عن خَروفٍ يُحسّ اكتِئابًا عميقْ

ويُقضِّي النَّهارْ

يقضِمُ العُشْبَ والأفكارْ

مُغْرَقًا في ضَبابِ وجودٍ سحيقْ

**

وسأجمعُ ذرّاتِ صَوْتِك من ضَحِكاتِ النعيمْ

في مساءٍ قديمْ

من أماسيِّ دِجلةَ يُثْقلُ أجواءَهُ بالحنينْ

مرحُ الساهرينْ

يرشفونَ خرير المياهْ

وهي تَرْطُمُ شاطئَهُمْ, وضياءُ القَمَرْ

قَمَرِ الصيفِ يملأ جوّ المَساءِ صُوَرْ

والنسيمُ يمرّ كلمس شِفاهْ

من بلادٍ أُخَرْ

ليلةٌ شهرزاديّةُ الأجواءْ

في دجاها الحَنونْ

كلّ شيءٍ يُحسّ ويحلُمُ حتى السكونْ

ويهيم بحبِّ الضياءْ

**

وسأسمَع صوتَكَ حيثُ أكونْ

في انفعال الطبيعةِ, في لَحَظاتِ الجنونْ

حينَ تُثْقل رجعَ الرُّعودْ

ألفُ أسطورةٍ عن شَبابِ الوجودْ

عن عصورٍ تَلاَشَتْ وعن أُمَم لن تعودْ

عن حكاياتِ صبيانِ (عادْ)

لصبايا (ثمودْ)

وأقاصيصَ غنَّتْ بها شهرزادْ

ذلك الملكَ المجنونْ

في ليالي الشتاءْ

وسأسمَعُ صوتَكَ كلّ مَسَاءْ

حين يغفو الضياءْ

وتلوذُ المتاعبُ بالأحلامْ

وينامُ الطموحُ تنامُ المُنَى والغَرَامْ

وتنامُ الحياةُ, ويبقى الزَّمَانْ

ساهرًا لا يَنَامْ

مثل صوتك, ملء الدُّجَى الوَسنانْ

صوتُكَ السهرانْ

في حنيني العميق

صوتك الأبديّ الذي لا يَنَامْ

فهو يبقَى معي سهرانْ

وأُحسّ صداهُ الملوّنَ يملأ كل طريقْ

بالشَّذَى بندى الألوانْ

صوتُكَ المجهولْ

أنا أدركتُ - يا فرحتا - سرّهُ المَعْسُولْ

أنا أدركتُهُ أنا وَحْدي وصمْتُ الزَّمَانْ


مرثية يوم تافه

لاحتِ الظلمةُ في الأفْق السحيقِ

وانتهى اليومُ الغريبُ

ومضت أصداؤه نحو كهوفِ الذكرياتِ

وغدًا تمضي كما كانت حياتي

شفةٌ ظمأى وكوبُ

عكست أعماقُهُ لونَ الرحيقِ

وإِذا ما لمستْهُ شفتايا

لم تجدْ من لذّةِ الذكرى بقايا

لم تجد حتى بقايا

انتهى اليومُ الغريبُ

انتهى وانتحبتْ حتى الذنوبُ

وبكتْ حتى حماقاتي التي سمّيتُها

ذكرياتي

انتهى لم يبقَ في كفّيّ منه

غيرُ ذكرى نَغَم يصرُخُ في أعماق ذاتي

راثيًا كفّي التي أفرغتُها

من حياتي, وادّكاراتي, ويومٍ من شبابي

ضاعَ في وادي السرابِ

في الضباب

كان يومًا من حياتي

ضائعًا ألقيتُهُ دون اضطرابِ

فوق أشلاء شبابي

عند تلِّ الذكرياتِ

فوق آلافٍ من الساعاتِ تاهت في الضَّبابِ

في مَتاهاتِ الليالي الغابراتِ

كان يومًا تافهًا. كان غريبًا

أن تَدُقَّ الساعةُ الكَسْلى وتُحصي لَحظاتي

إنه لم يكُ يومًا من حياتي

إنه قد كان تحقيقًا رهيبا

لبقايا لعنةِ الذكرى التي مزقتُها

هي والكأسُ التي حطّمتها

عند قبرِ الأمل الميِّتِ, خلفَ السنواتِ,

خلف ذاتي

كان يومًا تافهًا.. حتى المساءِ

مرت الساعاتُ في شِبْهِ بكاءِ

كلُّها حتى المساءِ

عندما أيقظَ سمعي صوتُهُ

صوتُهُ الحُلْوُ الذي ضيّعتُه

عندما أحدقتِ الظلمةُ بالأفْقِ الرهيبِ

وامّحتْ حتى بقايا ألمي, حتى ذنوبي

وامّحى صوتُ حبيبي

حملت أصداءه كفُّ الغروبِ

لمكانٍ غابَ عن أعينِ قلبي

غابَ لم تبقَ سوى الذكرى وحبّي

وصدى يومٍ غريبِ

كشحوبي

عبثًا أضرَعُ أن يُرجِعَ لي صوتَ حبيبي


مرثية امراة هي قصيدة اختم بها لان قصائدها عديدة وقد اخترت لكم ما راقني

[ صور من زقاق بغداديّ ]

ذهبتْ ولم يَشحَبْ لها خدٌّ ولم ترجُفْ شفاهُ

لم تَسْمع الأبوابُ قصةَ موتها تُرْوَى وتُرْوَى

لم تَرتَفِعْ أستار نافذةٍ تسيلُ أسًى وشجوَا

لتتابعَ التابوت بالتحديقِ حتى لا تراهُ

إلا بقيّةَ هيكلٍ في الدربِ تُرْعِشُه الذِّكَرْ

نبأ تعثـّر في الدروب فلم يجدْ مأوًى صداهُ

فأوَى إلى النسيانِ في بعضِ الحُفَرْ

يرثي كآبَته القَمَرْ.

**

والليلُ أسلم نفسَهُ دون اهتمامٍ, للصَباحْ

وأتى الضياءُ بصوتِ بائعةِ الحليبِ وبالصيامْ,

بمُوَاءِ قطٍّ جائعٍ لم تَبْقَ منه سوى عظامْ,

بمُشاجراتِ البائعين, وبالمرارةِ والكفاحْ,

بتراشُقِ الصبيان بالأحجار في عُرْضِ الطريقْ,

بمساربِ الماء الملوّثِ في الأزقّةِ, بالرياحْ,

تلهو بأبوابِ السطوح بلا رفيقْ

في شبهِ نسيانٍ عميقْ


تحياتي شموخ امراة

  رد مع اقتباس
 

ظ„ظٹظ†ظƒط§طھ - ط¯ط¹ظ… : SEO by vBSEO 3.5.1